التجويع في غزة... ألم يتجاوز القصف والموت
يفتك الجوع بأجساد الأطفال والنساء في غزة، كاشفاً وجهاً آخر للحرب أشد ضراوة من القصف والدمار.

نغم كراجة
غزة ـ في القطاع اليوم، لم يعد القصف وحده يقتل الناس بل إن التجويع أصبح السلاح الأكثر فتكاً، يفتك بالأطفال والنساء قبل أن تلامسهم شظايا القنابل، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، تفاقمت الكارثة الإنسانية لتتخذ أشكالاً مركبة، قصف يطارد الأحياء، حصار يخنق المدن، ومجاعة تقتلع حياة من تبقّى، داخل هذه المأساة الكبرى، تتجسد حكايات الأمهات كمرآة للعجز والفقد، كل واحدة منهن تحمل جرحاً لا يندمل، وصرخة لا تجد لها صدى.
أمّ فقدت ابنها من أجل رغيف خبز
نورا اللحام، النازحة من بيت لاهيا إلى مدينة غزة، تقف شاهدة على قسوة لم تشهد لها مثيلاً من قبل، تحكي وهي تختنق بالدموع "اضطررت أن أراقب أولادي الخمسة يتضورون جوعاً، حاولت أن أدبر ما أستطيع من الأسواق لكن كل شيء أصبح فوق مقدرتي. ابني أحمد البالغ من العمر 14 عاماً لم يحتمل، رأى أن الحل الوحيد هو الذهاب إلى منطقة زيكيم حيث تمر بعض المساعدات، كنت أعلم أنها منطقة خطرة، مصيدة موت، توسلت إليه ألا يذهب لكنه أصرّ من أجلنا، ذهب ولم يعد، عاد إليّ محمولاً على الأكتاف، ملابسه غارقة بالدماء، جسده منهك من سوء التغذية قبل أن يخطفه الرصاص، كيف أستوعب أن طفلي فقد حياته من أجل رغيف خبز؟ كيف لي أن أتجاوز أن المجاعة قتلت فلذة كبدي؟".
نورا اللحام ليست غريبة على الخسارة، فقدت مزرعة دواجنها عام ٢٠١٤، ثم حاولت أن تنهض مجدداً بمساعدة زوجها عبر بيع مجسمات فنية صغيرة، غير أن الحرب سحقت كل شيء. اليوم تعيش داخل خيمة مهترئة لا تملك فيها حفنة دقيق، تحتضن الطاقية وقميص ابنها اللذين تلطخا بالدماء لحظة عودته، تقول بحزن غائر "كل ليلة أضع الطاقية تحت رأسي وأشعر أن ابني سيعود رغم أنني رأيته ميتاً، لم يعد لي حلم سوى ألا يموت بقية أولادي جوعاً كما مات هو".
تكشف الإحصائيات مأساة أبعد من الشهادات الفردية، إذ تشير تقارير صادرة عن اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، إلى أن أكثر من نصف مليون إنسان في غزة يعيشون في ظروف تماثل المجاعة، بينما يواجه بقية السكان مستويات مختلفة من الجوع الحاد، وقد أوضحت بيانات أممية في مطلع عام ٢٠٢٤ أن طفلاً واحداً من بين كل ستة أطفال دون العامين يعاني من سوء تغذية حاد، كما سجلت وفاة أكثر من مئتي شخص نتيجة الجوع وسوء التغذية منذ بداية الحرب بينهم أكثر من مئة طفل.
الخوف من أن يعود الأبناء محمولين
أما ياسمين صالحة، فهي ترى أن الجوع أقسى من القصف ذاته، تتحدث بمرارة وهي تستحضر لحظات العجز "كلنا في غزة جياع، لا استثناء لأحد. فكرت أكثر من مرة أن أذهب بنفسي لنقاط المساعدات لكن عمري لا يسمح، فجسدي لا يحتمل المشقة، رفضت تماماً أن أرسل أولادي، خشيت أن يعودوا إليّ مقتولين، أي قلب أم يحتمل أن ترى رغيف الخبز مغموساً بدم ابنها؟ لو حدث ذلك، سأبقى العمر كله أنظر إلى الخبز وأراه ملطخاً بصور أبنائي".
تستذكر كيف عُرف أهالي غزة بالكرم والوفرة، وكيف صاروا اليوم يبحثون في أزقة الدمار عن أي طعام يسد الرمق "غزة كانت تعرف بالسخاء، كنا لا نرد ضيفاً ولا محتاجاً، واليوم صرنا نحن المحتاجون، رأيت بأم عيني نساء يضعن اليانسون بدل الحليب في زجاجات المواليد، الأطفال يصرخون جوعاً ولا سبيل لإسكاتهم سوى بالماء المغلي مع قليل من الأعشاب، أية قسوة هذه التي تجعل الأم عاجزة عن إطعام طفلها قطرة حليب؟".
وفي تموز/يوليو ٢٠٢٥، أظهرت تقارير صادرة عن منظمة "أنقذوا الأطفال" أن 43% من النساء الحوامل والمرضعات يعانين من سوء تغذية واضح يهدد حياتهن وحياة مواليدهن، في حين وثقت منظمة "أطباء بلا حدود" أن ربع الأطفال دون العام الأول يعانون من الهزال الحاد، إلى جانب ما يقارب خُمس النساء الحوامل أو المرضعات. هذا يبين أن الأزمة ليست طارئة بل ممتدة، حيث ارتفعت أسعار الدقيق إلى أكثر من ثلاثة أضعاف وتقلصت حصص الطعام اليومية إلى وجبة واحدة فقط لدى غالبية الأسر، ما يجعل الجوع في غزة أداة حرب ممنهجة وليست مجرد نتيجة عابرة للحصار والقصف.
الحسرة أمام جوع الأطفال
تهاني عوض، وهي في العقد الثالث من عمرها، تعيش مأساة أخرى مع أبنائها تقول وهي تغالب دموعها "أحياناً أتمنى قطعة حلوى، ليس لنفسي بل لأطفالي. حين يطلبون شيئاً بسيطاً كقطعة خبز، أشعر أن الأرض تنشق لتبتلعني، كيف يمكن لأم أن تسمع طفلها يقول (أنا جائع) ولا تملك شيئاً تقدمه له؟ أشعر بالعجز، وكأنني أم بلا قيمة".
تصف السوق في غزة كمشهد قاسٍ من الفوارق "حين تدخل بعض السلع، أسعارها مرتفعة، أقف أمام المواد الغذائية أنظر إليها وكأن مكتوب عليها (هذا ليس لك)، تخيّل أن رغيف خبز أصبح رفاهية لا يمكن الحصول عليها، إلى متى سنبقى نعيش بين قصف وجوع وموت؟ ما جريمتنا لنُعاقب بالتجويع؟".
الجوع كسلاح حرب
الأمر الأكثر خطورة أن الجوع لم يعد نتيجة جانبية للحرب، بل أصبح أداة بيدها، حين يُمنع دخول الغذاء والدواء، وحين ترتفع أسعار الدقيق بنسبة 300% وحين يُمنع وصول حليب الأطفال، تصبح المعادلة واضحة إنها حرب لا تستهدف المقاتلين فقط، بل أيضاً الأمهات والرضع.
في غزة، الأم لا تبكي على بيت مهدّم فحسب بل على طفل مات وهو يطلب لقمة عيش. نورا اللحام فقدت ابنها أحمد، وياسمين صالحة تخشى أن تفقد أبناءها من أجل الخبز. وتهاني عوض تنكسر أمام جوع أطفالها، خلف هذه الأصوات هناك نصف مليون إنسان على حافة المجاعة، نساء حوامل ينهار جسدهن، وأطفال دون الخامسة يتضاءل وزنهم حتى أصبحوا مجرد عظام مغلفة بالجلد.
الجوع في غزة سلاح بطيء يُستخدم لإخضاع شعب بأكمله، وبينما يستمر العالم في عدّ الضحايا بالقصف، هناك ضحايا آخرون يُطمرون بصمت في مقابر الجوع.