المعتقلات المحررات في إدلب... بين عذاب الاعتقال وظلم المجتمع
تعيش المعتقلات المحررات من سجون النظام في إدلب واقعاً مريراً تسوده النظرة المجتمعية الدونية غير المبررة وانعدام الحماية والأمان وغياب الدعم النفسي
سهير الإدلبي
إدلب ـ .
قبعت نوال المحمد (٢٨) عاماً وهي أم لطفلين في سجون النظام مدة سنتين ليتم الإفراج عنها فيما بعد، تقول نوال أن ما عانته داخل سجون النظام كان "أصعب من أن يوصف، لم يدعوا وسيلة تعذيب لم يعذبوني بها"، هكذا حاولت اختصار شرح ما لاقته في السجون من أهوال.
كانت نوال المحمد قد اعتقلت عند أحد حواجز النظام أثناء توجهها من قريتها كنصفرة إلى دمشق بصحبة والدتها المريضة بالسرطان بهدف تلقي العلاج في المشافي المختصة، غير أنها لم تتمكن من إكمال رحلتها حين استوقفها عناصر النظام على الحاجز للتحقيق معها، آمرين بقية ركاب الحافلة بمتابعة طريقهم.
لحظات وصفتها بالمرعبة مرت بها في ذلك الحين، إذ كانت تعي حينها أنها على موعد مع أحداث مؤلمة ممكن أن تتعرض لها في أفرعتهم الأمنية، وبعد تنقلات كثيرة بين مختلف أفرع المخابرات وتوجيه العديد من التهم لها ومنها "العمالة للإرهابيين ومساندة المنشقين عن النظام والعمل معهم"، تم إيداعها سجن عدرا بدمشق عام 2016 حيث أمضت القسم الأكبر من حكمها فيه.
تقول "بعد كل جولة تعذيب وشبح وحرق وإهانات، كنت أشغل نفسي بحلم جميل أستمد منه قوتي وأسأل نفسي إن كنت سأخرج يوماً ما وأنعم برؤية طفليّ مجدداً، أم ستكون نهايتي بين جدران هذا السجن النتن".
جاء خبر الإفراج عن نوال المحمد بعد عامين بمثابة "الحياة بعد الموت"، خرجت وداخلها الكثير من الشوق والحنين لأطفالها وعائلتها، لكنها قوبلت ببرود من جميع من حولها وفي نظراتهم جملة اتهامات وشكوك، وأول سؤال طرح عليها ما إذا تعرضت لمضايقات أو تحرشات داخل السجن وكأنها مذنبة بكل ما حدث معها، "آلمتني نظراتهم وأسئلتهم وكأن تعرضي للاغتصاب داخل السجن أكثر ما كان يهمهم، جلدوني بغمزاتهم واتهاماتهم أكثر مما فعله السجانون"، تقول ذلك دون أن تستطيع إخفاء دموعها الحارة النابعة من شعورها بالظلم المجحف بحقها رغم كل ما مرت به في سجون النظام من أهوال.
لم يقف الأمر عند هذا الحد حيث انفصل زوجها عنها وحرمها من طفليها دون رحمة، فما كان منها إلا أن لجأت لأخذ أولادها والهروب بهم لتركيا وبدء حياة جديدة بعيداً عن ذكرياتها المؤلمة.
حالات عديدة مشابهة لحالة نوال المحمد عانين من تبعات الاعتقال على الصعيد المجتمعي والنفسي، وشملت مخاوفهن القلق من مرحلة ما بعد التحرير نتيجة الخوف من المجهول وردود فعل المجتمع والأهل حول تجربة السجن والاعتقال.
استطاعت ولاء حميدو (٢٦ عاماً) أن تنجو بأعجوبة من غياهب سجون النظام لكنها لم تنجو من المعتقل الأكبر وهو معتقل العادات والتقاليد التي وضعها فيه مجتمعها في ريف إدلب.
اعتقلت ولاء حميدو على حواجز النظام المنتشرة على الطريق الواصل بين مدينتها سراقب ومدينة حلب في طريقها إلى جامعة حلب لدراسة الطب البشري في سنتها الثانية، وكان ذلك أواخر عام ٢٠١٧ ليستمر اعتقالها مدة عام كامل.
تقول والألم يعتصر قلبها "سحقوا أحلامي باعتقالي دون ذنب، ووجهوا لي تهمة العمل في المشافي الميدانية لألقى في سجونهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت"، وتمضي في وصفها قائلة "نعم تعرضنا نحن المعتقلات لأبشع الوسائل الإجرامية ولكننا لسنا مذنبات أبداً بل نحن كنا ندفع ثمناً باهظاً لحرب لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل"، وتتابع أن "ما زاد الطين بلة هو نظرات الاتهام واللوم من المجتمع وسعي أهلي لتزويجي بغية التخلص مما لحق بهم من عار، علَّ الزواج يستر عليَ وفق معتقداتهم".
تعيش ولاء حميدو اليوم في مخيمات أطمة الحدودية مع زوج يكبرها بخمسة عشر عاماً ودائماً ما يشعرها أنه خلصها من فضيحة الاعتقال حين قبل بالزواج منها.
أما روان السليم (٣٤) عاماً، علمت أن حياتها قبل الاعتقال لم تكن كما بعده، إذ أن المعتقلة لا تعامل كضحية من قبل مجتمعها مهما كانت بريئة بل هي مذنبة وستبقى تدفع ثمن تبعات اعتقالها مدى الحياة.
وعن تفاصيل اعتقالها تقول روان السليم وهي من غوطة دمشق ومقيمة في مخيمات إدلب الشمالية، أن اعتقالها حدث بعد مداهمة الأمن لمنزلها أواخر عام ٢٠١٢ على خلفية مشاركتها في المظاهرات التي خرجت مطالبة بالحرية والكرامة.
وتضيف أنها قبعت في سجون النظام أكثر من خمس سنوات بتهم ملفقة عدة لا تمت للواقع بصلة "اتهمت بتهريب الأسلحة والأدوية للإرهابيين، كانت تهمهم جاهزة وليس علينا سوى التصديق والتوقيع عليها بإرادتنا أو رغماً عن أنوفنا، أمضيت خمس سنوات داخل سجون أقل ما يقال عنها أنها مسالخ بشرية بل هي الجحيم بعينه".
حين أطلق سراحها من السجن كانت تعلم جيداً أنها لن تجد استقبالاً حاراً من أهلها وذويها الذين باتت بالنسبة لهم وصمة عار وخزي باعتقالها، ولكن ما لا توقعته أن تلقى أهلها وقد لجأوا لنشر خبر وفاتها تحت التعذيب "ليتخلصوا من القيل والقال التي تمس سمعتهم وشرفهم" على حد وصفها.
وتؤكد أنه وفور خروجها من المعتقل عمد أهلها لإرسالها إلى إدلب لتعيش مع عمتها الأرملة في مخيمات إدلب الشمالية التي هي أشبه "بالمنفى".
"لم أتمكن حتى اليوم من الاندماج المجتمعي، ودائماً ما يشعرني من حولي بأنني لست كغيري من النساء"، وتتابع متحدثة عن معاناة المعتقلات المحررات "واجهنا ظلم المجتمع وطغيان الذكورية وزادت الضغوط علينا في الوقت الذي كنا فيه بأمس الحاجة للدعم النفسي والاجتماعي، بدل الإمعان في زيادة آلامنا وأوجاعنا"، وتتساءل "لما كل تلك القسوة بحق المعتقلات المحررات، فهل لو كان المعتقلين المحررين ذكوراً سيعاملون ذات المعاملة أم سيتم استقبالهم كالأبطال الفاتحين".
ومع دخول الحرب السورية عامها الحادي عشر ما تزال المعتقلات السوريات المحررات منسيات في مواجهة مصائرهن المؤلمة، حيث تعانين من أوضاع إنسانية صعبة لا تنتهي بمجرد خروجهن من المعتقل.
وكشفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير أصدرته في ٨ آذار/مارس ٢٠٢١، أن جميع الانتهاكات ضد المرأة في سوريا لم تحظى باهتمام كاف من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وإن ما يقارب ٩٢٦٤ امرأة في سوريا لا يزلن قيد الاعتقال والاختفاء القسري منذ عام 2011، نحو ثمانية آلاف و29 امرأة منهن لدى النظام.