المرأة في إيران بين رقابة الأسرة وقمع الدولة

من دورية الإرشاد إلى نظرة العائلة، ومن عمارة المدينة إلى كاميرات المراقبة، يُحاط جسد المرأة في إيران بتراكم متواصل من أشكال السلطة، فالمدينة التي يُفترض أن تكون فضاءً للحياة اليومية تحولت شيئاً فشيئاً إلى شبكة غير مرئية من الضبط والإقصاء.

شيلان سقزي

مركز الأخبار ـ في إيران، لا تُعدّ المساحات الحضرية أماكن عبور وإقامة فحسب، بل هي أيضاً ساحة لممارسة السلطة، سلطة تمتد من مستويات الحكومة الرسمية إلى الأسرة غير الرسمية والمؤسسات التقليدية ضد المرأة.

تخضع النساء في إيران دائماً لمراقبة طبقات كثيفة ومتشابكة من السيطرة، من الشرطة والكاميرات إلى نظرات الإخوة والآباء والمجتمع، تُنتج هذه البنية متعددة الطبقات من المراقبة نوعاً من النظام الجندري يجعل جسد الأنثى موضوعاً دائماً للتأديب والرعاية والرفض.

يسعى هذا التقرير إلى دراسة آليات السيطرة وقمع الجسد ووجود المرأة في الفضاءات الحضرية في إيران، من خلال السياسات الأمنية والعمارة الحضرية التي تتوسطها الهياكل التقليدية والعائلية.

 

 

كراهية النساء في الفضاء؛ المدينة ضد النساء

في إيران، خلال عهد الجمهورية الإسلامية، لم يكن الفضاء الحضري مجرد مكان للحياة، بل كان أيضاً أداةً لفرض الانضباط الاجتماعي والجنساني والطبقي، أي أن المدينة تُمارس نوعاً من السياسة المكانية التي تُخضع النساء فيها بشكل مضاعف.

الفضاء الحضري، المُراقب بالكاميرات ودوريات الشرطة، والمعايير الذكورية الدينية للتنقل واللباس، هو ساحةٌ لإدارة الأجساد، النساء المهمشات، المحرومات غالباً من الخدمات الحضرية والأمن والتعليم والعمل، لا يملكن حتى الحق في التواجد في هذه المساحات إلا ضمن أطرٍ مُحددة مسبقاً، في الواقع صُممت السياسات الحضرية ليس للإدماج بل للإقصاء والطاعة، بهذه الطريقة تُصبح المدينة آلةً لإعادة إنتاج اللامساواة، لم تعد المنازل فحسب بل أصبحت الشوارع والساحات، وحتى مقاعد الحدائق ساحاتٍ للصراع الطبقي والجندري، حيث تُصبح النساء أكثر من أي شخص آخر هدفاً للإقصاء والتأديب.

 

الانضباط الجندري في الفضاء الأمني

المساحات الحضرية، وخاصةً في المناطق ذات الطابع السياسي الوطني مثل كرماشان وزاهدان والأهواز، ليست مجرد بنية تحتية للحياة اليومية، بل أصبحت أيضاً مسرحاً للسلطة والانضباط والقمع، ما نشهده في هذه المدن هو شكل متقدم من "ضبط الفضاء"، مساحة يكون فيها الشارع والساحة والممر، وحتى الرصيف، في خدمة سياسة أمنية.

على سبيل المثال، في زاهدان، بعد الجمعة الدامية في عام 2022، لم يقتصر القمع المباشر على ذلك، بل تحوّل إلى حضور دائم لقوات الأمن ومراقبة حركة المرور، وإنشاء نقاط تفتيش، وأجواء من الخوف، أدواتٍ لتنظيم "العصيان"، في هذا السياق تتعرض النساء البلوش لقمعٍ مضاعف في هذا المجال بسبب جنسيتهن وجنسهن، فوجودهن في المدينة محدودٌ ومُسيطرٌ عليه من خلال النظرات المُتطفلة، ودوريات الشرطة، والهياكل المعمارية الرادعة كالأسوار وفصل الأماكن العامة.

في كرمانشاه، بعد احتجاجات تشرين الثاني/نوفمبر 2019 والانتفاضة الشعبية، أصبح تحرير المساحات الحضرية بكاميرات المراقبة ودوريات الأمن والمباني المُسيّجة أداةً لخلق قلق دائم، وكما يشير هنري ليفبفر، فإن "الفضاء إنتاج اجتماعي"، وفي هذا الإنتاج، تسعى الحكومة إلى إخماد النشاط السياسي من خلال إعادة تصميم العمارة، وإلغاء الساحات، والسيطرة على أماكن التجمع، في كرمانشاه أكبر مدينة شرق كردستان في السنوات الأخيرة دُمّرت جميع ساحات المدينة تقريباً وحُوّلت إلى أنفاق أو جسور علوية بحجة الازدحام المروري، حتى في الأحياء والأماكن التي كانت في السابق أماكن تجمع عائلية، اختفت هذه الساحات الجماعية.

 في الأهواز أيضاً، يُظهر الوجود العسكري المكثف والانضباط الصارم على ملابس النساء العربيات نوعاً من الاستعمار الجندري الداخلي، في هذا النظام الحضري يُصبح جسد المرأة العربية هدفاً للإسكات وموضوعاً للمقاومة في آنٍ واحد، فلا يُعدّ حجابها مجرد قطعة قماش، بل مجالاً للتوتر السياسي.

 

 

مدينة تحت المراقبة والنساء تتعرض للضغط

إن إنشاء المساحات العامة المغلقة، والإضاءة المفرطة، وإزالة المقاعد، وتقييد الوقوف والتجمع، والعمارة البغيضة، كلها تُظهر أن المدن لم تعد مصممة للعيش بل للطاعة، ويتجلى القلق الناجم عن هذه المساحة بشكل أوضح لدى النساء، اللواتي يتوجب عليهن باستمرار إخفاء أجسادهن والتحكم بها وتنظيمها.

نتيجةً لذلك، لا يقتصر الخوف والقلق في المدن المُؤمَّنة "(الخاضعة للرقابة الأمنية) على العنف المُعلن فحسب، بل يُعزى أيضاً إلى العمارة المُنظَّمة، والتواجد الأمني ​​المُستمر وسياسات الإقصاء، في هذه المدن يتحوّل جسد المرأة إلى مجالٍ للمقاومة والسيطرة في آنٍ واحد، فتارةً تُعيد مساحتها من خلال مقاومتها، وتارةً تُجبر على الصمت بفعل ضغطٍ مُضاعف.

من ناحية أخرى، تحوّل الفضاء الحضري في إيران، بعد الانتفاضة الشعبية إلى ما يشبه "نظام مراقبة دائم" وهو وضعٌ ترافقه دوريات إرشادية، وكاميرات مراقبة، وتواجدٌ فعليٌّ لقوات الأمن، ومراقبةٌ للملابس، ونظامٌ معماريٌّ "مناهضٌ للتركيبة السكانية" في هذا النظام لا تُضطر النساء فقط إلى التصرف وفقاً لأنماط جنسانية مفروضة، بل يخضعن أيضاً لمراقبةٍ مستمرة، مما يجعل أجسادهن مجالاً دائماً للمراقبة والتوتر والقلق.

في هذه المساحة، تتخيل المرأة نفسها تحت رقابة دائمة، حتى في غياب مراقب موضوعي، ونتيجةً لذلك يتطور لديها قلق مزمن يشمل القلق الاجتماعي والخوف من أن تُرى، والخوف من أن تُحكم عليها ونوعاً من الرقابة الذاتية السلوكية التي تؤدي مع مرور الوقت إلى إرهاق نفسي.

يتضاعف هذا الضغط بشكل خاص في المدن الآمنة مثل الأهواز وزاهدان ومدن شرق كردستان، تتعرض النساء فيها لمعاملة تأديبية مزدوجة بسبب جنسيتهن وجنسهن، ومن الآثار النفسية المباشرة لذلك الشعور بانعدام الأمن، وتراجع الثقة في المجال العام، وعدم القدرة على تكوين هوية جماعية، والخوف الدائم من القمع، نتيجةً لذلك تُصبح نفسية النساء في هذا الفضاء ساحة معركة صامتة، حيث القلق والاكتئاب واللامبالاة الاجتماعية، بل وحتى الانهيار الداخلي، هي نتاج تراكمي لسنوات من السيطرة المؤسسية، يُصبح الفضاء أداةً نفسيةً للسلطة.       

 

 

الشرطة في المنزل والشرطة في الشارع

لا تقتصر السيطرة على أجساد النساء وأفعالهن في إيران على المؤسسات الرسمية والحكومية (مثل دورية الإرشاد الإسلامي، والشرطة، وكاميرات المراقبة)، بل تُعاد إنتاجها وترسيخها أيضاً من خلال هياكل غير حكومية، مثل الأسرة، والتقاليد، والدين، والمجتمع المحلي، ويتمتع نظام السيطرة هذا بنوع من الرقابة الاجتماعية حيث تلعب الأم، أو الأب، أو الأخ، أو الجار، أو المارة دور الوسيط الرسمي، ويُضيّقون المجال أمام النساء من جميع الجهات.

في المدن الصغيرة أو المناطق العرقية أو الدينية مثل زاهدان وقم ومشهد، تُتيح هذه الضوابط غير الحكومية للمؤسسة الرسمية حرية تقييد النساء دون أي مقاومة اجتماعية، في الواقع يُنظر إلى جسد المرأة هنا كمجالٍ لسلطة الدولة والمجتمع، حيث تعمل "التقاليد" و"الدولة" في تحالفٍ ضمنيٍّ وصامت ضد حريات المرأة، بدلاً من معارضتها.

تُمارس هذه الضوابط من خلال التشهير، والتهديد بتشويه الشرف، والضغط على الأسرة، والعنف المنزلي، والنتيجة هي إعادة إنتاج للهيمنة تُفسح المجال لسلطة الرجل وتدفع النساء إلى العزلة، والرقابة الذاتية، والقمع النفسي، في هذا المزيج يُصبح المنزل سجناً، والمدينة ميداناً للمراقبة المستمرة، لذلك لم يعد الفضاء الحضري للنساء مكاناً للعيش الحر، بل مجالاً للرقابة والانضباط، من الشرطة إلى الأسرة ومن العمارة إلى العادات، تخضع أجساد النساء لمستويات متعددة من المراقبة، مراقبة تقوّض مشاركتهن الاجتماعية والسياسية من خلال توليد القلق والإقصاء والتقييد.