ازدياد حالات العنف الجنسي في ظل عدم محاسبة المجرمين

تتزايد المعاناة التي تواجهها النساء ذوات الإعاقة في تونس، وذلك نتيجة الواقع الاجتماعي، وسط نظام خالي من القوانين والجهات التي تحمي حقوق النساء.

إخلاص حمروني

تونس ـ في أعماق المناطق الداخلية لتونس، حيث تتداخل هشاشة البنية التحتية مع التهميش الاجتماعي، تعيش نساء وفتيات كثيرات في صمت القوانين وانعدام محاسبة المجرمين، أما إذا كانت إحداهن من ذوات الإعاقة، فإن معاناتها تتضاعف، وتصبح أكثر عرضة للعنف الجنسي في ظل غياب الوعي المجتمعي، وضعف التمكين المؤسساتي.

في سيدي بوزيد، المحافظة الريفية المهمشة، تختبئ قصص كثيرة خلف جدران المنازل، نساء سُلبن أصواتهن، ومن بين هذه القصص قصة "روعة" طفلة ذات إعاقة ذهنية تعرضت إلى اعتداء جنسي وعندما قررت والدتها التمسك بالقانون لمعاقبة الجاني واجهت الكثير من المصاعب.

 

شهادة مؤلمة

"كانت تلعب ابنتي أمام المنزل...اختفت فجأة" بهذه الكلمات بدأت سعاد الخليفي حديثها عن الحادث المؤلم الذي شهدته، وقد رفضت الكشف عن هويتها أو تصوير وجهها خوفاً من الوصم الاجتماعي.

وعن الحادثة التي ما زالت تزيد الأم بالمصاعب والآلام  قالت سعاد الخليفي "كنت اراقب ابنتي وهي تلعب، أمام المنزل، لكن عندما دخلت المنزل من أجل قضاء بعض الحاجات المنزلية، وخرجت مرة أخرى لم أجد ابنتي، وبدأت ابحث عنها في كل مكان وأخيراً وجدتها قادمة من شارع قريب من منزلنا...لقد كانت تضحك من الصدمة وعندما سألتها أين اختفت؟ أجابتني: كنت مع "فلان"' لقد تحرّش بي واعتدى عليّ جنسياً".

ووصفت تلك الجملة التي نطقتها طفلتها المعاقة ذهنياً بالصاعقة "لم اصدق ما سمعته، وكانت تلك الجملة التي نطقتها ابنتي كالصاعقة، وبعد تفكير عميق قررت أن أدافع عن ابنتي، واتصلت بالشرطة على الفور، فجاؤوا إلى المنزل وقاموا بالإجراءات اللازمة، وفي اليوم التالي، اجرينا التحاليل عند الطب الشرعي، وأخذتها أيضاً لطبيب نفسي، ورفعت قضية لمحاسبة الجاني".

 

جرائم لا يحاسبها القانون ولا تسمعها أذن صاغية

وأشارت إلى العجز الذي واجهته بعد أن دخلت في "دوامة المحاكم"، حيث لم يُبتّ في القضية حتى الآن لأن شهادة ابنتها "لا يُعتمد عليها قانونياً" وذلك بسبب إعاقتها، "بقيت وحيدة أنا وابنتي في تلك المحاكم نواجه تلك التحديات، وكأنني أحارب الدنيا لوحدي، أما الجاني فكان حر طليق، وابنتي تحمل الجرح وحدها".

 لكن رغم الصعوبات والعوائق لا تزال سعاد الخليفي تناضل من أجل ضمان حق ابنتها ومحاسبة الجاني، "اتصلت بجمعية نسوية في سيدي بوزيد وطلبت منها المساعدة بشرط الاحتفاظ بسرية الأسماء"، والآن الأم والجمعية يعملان معاً بإصرار لمعاقبة الجاني.

 

تكاتف النساء في مواجهة العنف

في مواجهة هذه القصص الموجعة، تبرز جمعية "نساء أولاً" كسند للنساء في المناطق الداخلية، وكانت حياة القادري من مؤسسي هذه الجمعية عام 2019، وذلك بهدف دعم العاملات في القطاع الفلاحي، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى جمعية شاملة تعنى بمناهضة العنف ضد النساء، والدفاع عن حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لا سيما في ولايات سيدي بوزيد، القصرين، وقفص، وتحرص الجمعية أيضاً على ضمان التمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء، مناهضة العنف الموجه ضد المرأة بكافة أشكاله، ومناهضة التمييز، إضافة إلى فتح آفاق جديدة للنساء والشباب على حد سواء.

وفي سنة 2022، أنشأت الجمعية مركزاً للإصغاء والتوجيه ليقدم خدمات نفسية وقانونية مجانية، بما في ذلك مرافقة الضحايا في كل مراحل التقاضي، وتوفير محامين مختصين، كما أنشأت الجمعية فضاءات آمنة للنساء الناجيات من العنف للمشاركة في دورات تأهيل وتمكين اقتصادي.

 

الوصم الاجتماعي يزيد من حالات العنف

وأشارت حياة القادري إلى أسباب تزايد حالات العنف "رغم استقبالنا للعديد من النساء، إلا أن العنف الجنسي، كحالات الاغتصاب أو التحرش أو الاعتداء، ما زال من المواضيع المسكوت عنها في مجتمعنا، كثير من الضحايا يفضلن الصمت وعدم التوجه إلى القضاء أو حتى إلى الجمعية، مما يؤدي إلى تعمق المشاكل النفسية"، مشيرةً إلى أن العنف الجنسي لا يُناقش في المناطق الداخلية مثل سيدي بوزيد وخاصة حين تكون الضحية امرأة ذات إعاقة.

وأضافت "كثير من الحالات لم يُبلّغ عنها، والنساء يخترن الصمت خوفاً من الوصم الاجتماعي، لذلك قررنا أن نكون صوتاً للنساء اللاتي تسلب حقوقهن".

وعن نشاط الجمعية في هذا الشأن بينت أن الجمعية نظمت دورات تكوينية لفائدة مزودي الخدمات في كل من سيدي بوزيد والقصرين وقفصة لتوفير الخدمات حول الدعم النفسي والصحة النفسية والجنسية، وكيفية مرافقة ضحايا العنف الجنسي، مشيرة إلى خططهم المستقبلية "وفي المرحلة القادمة نسعى إلى توفير خدمات في عدد من مراكز الإصغاء والتوجيه، بما في ذلك مراكز الإيواء، حيث يتم تقديم خدمات مجانية من محامين وأخصائيين نفسيين".

 

برامج تأهيلية تعمل على توعية المجتمع والحد من العنف

ومن بين البرامج الأخرى التي تهدف إلى دعم الناجيات من العنف الجنسي، نظمت الجمعية حلقات حوارية تمكن النساء من التعبير عن مشاعرهن وتجاربهن مع العنف الجنسي، ونظمت أيضاً مخيماً في منطقة بعيدة، لإخراج النساء من ضغط الحياة اليومية ومساعدتهن في دخول مرحلة التعافي من آثار الاعتداء ثم العمل على إدماجهن في أنشطة الجمعية ومشاريعها الخاصة بالتمكين الاقتصادي.

وبينت حياة القادري "كان لدينا حالة امرأة ضحية عنف جنسي لم تستطع الإبلاغ عن الجاني لأنها لا تعرف كيفية الدفاع عن حقوقها وفضلت الصمت خوفاً من ردود فعل المجتمع، فقامت الجمعية بتثقيفها وتعليمها لكي تكتسب المعرفة والأساليب التي تستطيع من خلالها الدفاع عن ذاتها".

وأضافت "أيضاً في الجمعية، ننظم دورات تكوينية في مجال الحقوق والمناصرة، وقد انضمت شابة كانت ضحية عنف جنسي، وشاركت في أنشطة الجمعية، وأصبحت من الناشطات والمدافعات عن حقوق النساء، وقد لاحظنا مدى جديتها والتزامها بهذه القضايا، وايضاً ازدادت رغبتها في النجاح وسعيها الكبير للحد من ظاهرة العنف الجنسي".

وتعمل "النساء أولاً" على توفير مجموعة من الخدمات والتي عادة تبدأ بالتوجيه القانوني المجاني، مروراً بالمرافقة، والتكفل بمصاريف التنقل والتقاضي، مثل تغطية تكاليف النقل العمومي، والحصول على الشهادات الطبية اللازم، كما تتولى محاميات من فريق الجمعية مرافقة المرأة ضحية العنف الجنسي طيلة مسار القضية، بما في ذلك مرحلة الاستئناف إن اقتضى الأمر، حيث لا تترك وحدها في أي خطوة من خطوات التقاضي، إلى أن تتمكن من نيل حقها الكامل.

 

تحديات وإصرار

وتعتبر حياة القادري أنه يجب مناقشة موضوع العنف الجنسي علناً والحديث عن هذه المشكلة داخل منطقة ريفية أو داخلية، واعتبرت هذه من ابرز التحديات التي تواجهها الحقوقيات أو الجمعية لأن هذه الفكرة ومناقشتها مرفوضة اجتماعياً. ومن أجل ذلك، تحاول الناشطات في الجمعية التعامل مع النساء بأسلوب جيد والحديث إليهن بطريقة مبسطة، "نحاول أن نشرح لهن هذه الظاهرة وخطورتها، لأنه في بعض الأحيان، تتعرض النساء لهذه الظاهرة ولا يعرفن أنهن تعرضن لها، بسبب غياب الوعي بمفهوم التحرش الجنسي، وأن هذا أحد أخطر أشكال العنف".

وذكرت أن من أكثر التحديات التي تواجهها الجمعية هي نقص الوعي لحقوق النساء في الصحة الجنسية، وحقهن في التعبير عن هذه الظاهرة، موضحة "الحديث عن ظواهر العنف من قبل النساء في هذه المناطق تعتبر من الأمور المحرمة وينظر إلى المرأة التي تتحدث عن هذا الموضوع نظرة دونية، وقد تصل الأمور إلى حد وصمها اجتماعياً، فقط لأنها تحدثت عن هذا الموضوع علناً".

وأضافت "وأيضاً من الصعوبات التي نواجهها في محاربة العنف هي نقص المعرفة لدى مزوّدي الخدمات بالقوانين والخدمات التي تُقدَّم للنساء، بالإضافة إلى البطء الشديد في تنفيذ الإجراءات القانونية والبيروقراطية، مثل تأجيل المواعيد إلى "الغد"، أو تحديد جلسات لدى القاضي بعد شهرين، وأحياناً تستغرق القضية أربع أو خمس سنوات ليصدر فيها الحكم".

وتطرقت إلى مثال يعبر عن تلك الصعوبات قائلة "على سبيل المثال لدينا قضية لا تزال جارية، وهي تتعلّق بطفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة تعرضت للعنف الجنسي، حتى الآن، لم يتم الفصل في القضية، لأنها من ذوي الإعاقات، ولم تتمكن من الدفاع عن نفسها وسط تعقيدات المحاكم، حيث استغل الجاني إعاقتها، مدعياً أنها تعاني من اضطرابات نفسية وذهنية، مما تسبب في تضييع حق هذه الضحية، فقط لأنها لم تكن قادرة على إثبات روايتها أو مواجهة المعتدي".

 

"آن الأوان لأن ترفع النساء أصواتهن"

وفي ظل هذا الصعوبات والعوائق، تلجأ الناجيات من العنف إلى الجمعية للتعهد بهن في المراكز الشريكة شرط الحفاظ التام على سرية معطياتهن الشخصية وحتى الأسماء يتم تدوينها بطريقة مختلفة لضمان الخصوصية. وهذا الحرص نابع من وعي الجمعية بطبيعة المجتمع الذي لا يزال يتعامل بقسوة مع الناجيات من العنف الجنسي، حيث يتعرضن للوصم الاجتماعي والشعور بالعار، مما يدفع كثيراً من النساء إلى الصمت وعدم البوح بما تعرضن له، خوفاً من نظرة المجتمع أو من فقدان الدعم الأسري والاجتماعي.

ولكسر حاجز الصمت والخوف تحاول الناشطات بالجمعية تبسيط المعلومة لهن قدر الإمكان ومساندتهن معنوياً ومادياً، وفي هذه الفترة تعمل الجمعية على إعداد دليل إجرائي للنساء، يساعدهن على معرفة حقوقهن (يوضح للمرأة ضحية العنف الجنسي إلى أين تتجه، وماذا تفعل، وما هي الخطوات الضرورية للدفاع عن نفسها) والاطلاع على الخدمات التي توفرها الجمعية في كل من ولايات سيدي بوزيد، قفصة، والقصرين.

وفي ختام حديثها أكدت حياة القادري على أهمية وجود قوانين تحمي حقوق المعنفات "سنضع مجموعة من القوانين التي تؤكد وتبرز حقوق المرأة، والخطوات التي يجب أن تتبعها لضمان حقها وعدم ضياعه"، موضحةً أن الصمت لم يعد حلاً، بل آن الأوان لأن ترفع النساء اصواتهن، وتواجه المعتدي، وتمنع تكرار هذه الجرائم في حقها أو في حق نساء أخريات.