إيمان غانمي: ينبغي إدماج مقاربة النوع في السياسات العمومية
تعتبر الناشطة السياسية إيمان غانمي أن النساء هن الأكثر تضرراً من الأوضاع المجحفة التي زادها حدة ضمور البرامج والسياسات العمومية الدامجة للنساء في الحياة العامة وفي الدورة الإنتاجية وإشراكهن الفعلي في دوائر القرار والمسؤولية.
رجاء خيرات
المغرب ـ بعد مضي ما يقارب 14 عام على اعتماد دستور 2011 لم يتم تنفيذ مجمل المقتضيات والهياكل والمؤسسات والنصوص التطبيقية لكل ما جاء به من حقوق ومكتسبات ديمقراطية ومؤسسية تعزز وتبوأ المرأة والرجل على حد سواء المكانة التي يستحقونها والمنصوص عليها بشكل مكثف في مضامين الفصل 19 من الوثيقة الدستورية.
ترى الناشطة السياسية ورئيسة منظمة المرأة العاملة إيمان غانمي أن النموذج التنموي الجديد خلق حيزاً مهما للمرأة، وفتح لها آفاقاً واسعة للمشاركة في التنمية المجتمعية المستدامة، كما أن العلاقة الوثيقة بين تحقيق التنمية ورفع معدلات النمو والنهضة المجتمعية، وإدماج المرأة وتمتعها بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية كاملة، هو نفس المبدأ الذي ينص عليه وتحدده مقتضيات الفصل التاسع عشر من الدستور.
هناك غياب لسياسة عمومية فعلية قائمة الأركان تهم إعمال مبدأ المساواة بميزانية مخصصة وخطة عمل واضحة بالنسبة لكل القطاعات الحكومية المعنية، كيف تقيمين هذا الوضع؟
وضع المرأة المغربية عموماً هو جزء لا يتجزأ من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المقلقة بالنظر للارتفاع المهول لكلفة العيش نتيجة لموجات غلاء المواد الغذائية وارتفاع أسعار المحروقات والخدمات، ناهيك عن نسب البطالة المرتفعة في صفوف حاملي الشهادات العليا من خريجي المعاهد والجامعات، حيث يشهد الفضاء العام تصاعد ديناميكيات الحركات الاحتجاجية لمجموعة من الفئات الاجتماعية على هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تدق ناقوس الخطر، لذلك من الضروري إيلاء الحكومة الحالية أهمية بالغة لحلحلة المسألة الاجتماعية في مختلف تجلياتها عبر سياسات عمومية ناجعة وعاجلة.
ولعل هذه الأوضاع المجتمعية الضاغطة في ظل هذه الظروف الاقتصادية وارتباطها بالمتغيرات الإقليمية والعالمية، تؤكد بشكل جلي أن المرأة المغربية هي الأكثر تضرراً من هذه الأوضاع المجحفة والتي زادتها تدهوراً وهشاشة تداعيات جائحة كوفيد ـ 19، وما يزيدها تعقيداً ضمور البرامج والسياسات العمومية الدامجة للنساء في الحياة العامة وفي الدورة الإنتاجية وإشراكهن الفعلي في دوائر القرار والمسؤولية، وقلة التوجهات التي جاء بها دستور 2011 بالنظر لتأخر أجرأتها، وخاصة ما يتعلق بتطبيق المقتضيات الرامية لتكريس المساواة بين الجنسين، رغم وجود مجموعة من الآليات والبرامج والتشريعات، إلا أنها تظل نظرية وغير تطبيقية بل حتى ما تم إنجازه من تدابير وإجراءات لتحقيق الإنصاف لتكريس المناصفة، تظل محدودة الأثر في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لدى السلطات العمومية المختصة ولدى السلطة الحكومة بشكل أدق، لحلحلة الأوضاع نحو المأمول والمنتظر منذ سنوات من العمل بدستور الحريات والحقوق الجاري العمل به منذ 2011.
فبعد مضي ما يقارب 14 عام على اعتماد دستور 2011 لم يتم بعد تنفيذ مجمل المقتضيات والهياكل والمؤسسات والنصوص التطبيقية لكل ما جاء به من حقوق ومكتسبات ديمقراطية ومؤسسية تعزز وتبوأ المرأة والرجل على حد سواء المكانة التي يستحقونها والمنصوص عليها بشكل مكثف في مضامين الفصل 19 من الوثيقة الدستورية. وبناء على هذا التشخيص الموضوعي، فإن الواقع لا يرتفع بالشعارات والجمل الرنانة، بل ينبغي أن يتحقق العمل الفعلي للحقوق الدستورية على أرض الممارسة الواقعية.
ولعل أهم التحديات القائمة تكمن في بطء بل عسر تطور العقليات، ناهيك عن استمرار النظرة الدونية للمرأة، ما يتطلب بذل وتظافر الجهود بين كل السلطات العمومية والفاعلين الحقوقيين وهيئات المجتمع المدني في تجاه التوعية والتحسيس ورفع مستوى الوعي بأهمية تحقيق المناصفة.
كما يتطلب الأمر تغيير زاوية التعاطي مع تيمة حقوق ومكانة وأدوار المرأة في المجتمع إلى جانب الرجل، من منطلق التكريس المبدئي لمقاربة النوع والمناصفة الفعلية عبر مختلف مؤسسات ومراحل التنشئة الاجتماعية وعبر منظومة التربية والتكوين الوطنية وعبر الوسائط التواصلية المتعددة.
وبالنظر للكلفة السياسية والتنموية الكبيرة للفترة الزمنية المستنفذة في هذه المقاربة الموسومة "بالهادئة والمتدرجة" وبعد مرور وقت طويل على بدء الإصلاحات المؤسساتية والدستورية لسنة 2011، نخلص بشكل منطقي إلى وجود "تلكؤ واضح" و "تقاعس بيّن" لدى الحكومة المغربية في تنزيل هذه المقتضيات الدستورية التي خسر الوطن وفئات واسعة منه الكثير بتأخر تطبيقها والعمل بها وجني ثمارها السياسية والديمقراطية والتنموية وما سيتحقق تبعاً لذلك من تفرد وتميز وقيمة مضافة على صورة المغرب على مختلف الأصعدة الداخلية والخارجية. كذلك التأخر في إخراج وتطبيق هيئة المناصفة ومكافحة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، لتضطلع بأدوارها الدستورية في تعزيز مكانة النساء المغربيات وتثمين أدوارهن إلى جانب الرجال في تنشيط وتطوير وتمتين لحمة المجتمع.
فالنساء المغربيات تعانين من ضمور نسب التمكين الاقتصادي وارتفاع نسب البطالة، إضافة إلى صعوبة الولوج إلى سوق العمل، كما نجد بأن عمل المرأة يتأرجح في أغلب الأحيان ما بين العمل المؤقت والعمل الموسمي، وفي بعض الأحيان تعمل النساء بدون أجر، بالإضافة إلى مشاكل النقل ووسائط التنقل للعمل بالنسبة لفئات كبيرة من النساء في مجالات وفضاءات مختلفة، حيث يسود التحرش اللفظي والجنسي في الفضاء العام وفضاء العمل، فضلاً عن غياب دور الحضانة والمشاكل المرتبطة بالأمومة والصحة الإنجابية، كما نجد بأن هناك فرق كبير بين أجور النساء والرجال.
أما بالنسبة إلى سبل وصول النساء إلى مراكز صنع القرار، فهناك من ابتدعوا أسلوباً ملتبسا للتعاطي مع مبدأ المناصفة بمنطق التحايل بوسائل متعددة، حيث يتم اللجوء من طرف البعض في مجالات مهنية بعينها، وفي الغالب الأعم من "المقاربات" إعمال المحسوبية وفرض منطق القرابة والولاءات لإقصاء الكفاءات النسائية الحقيقية. وبتكريس هذه الأساليب المتحايلة على النصوص القانونية وتكييفها على مقاسات منتقاة ضمنياً ومسبقاً، فقط من أجل الايهام بأن العمليات تمت وفقاً "لإجراءات ومساطر" يكفلها القانون، نجد أن الكفاءات النسائية والمناضلات منهن نقابياً أو سياسياً مركونات "على الرفوف" مع سبق الإصرار والترصد والاستهداف من بعض "المسؤولين" بالمؤسسات، في حين يتم منح المناصب ومواقع المسؤولية للصديقات والقريبات والموصي بهن وكل ما شابه ذلك. والنتيجة في كل الأحوال إقصاء وتهميش واضح للكفاءات النسائية الحقيقية وإساءة وخرق للدستور وتحايل على القوانين الجاري العمل بها.
بالعودة إلى مشروع النموذج التنموي الجديد، فمن المؤكد أنه يفتح أمام المرأة آفاقا أوسع للمشاركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز فرص العمل، لكن على مستوى الواقع نحن بعيدون عن ذلك. كيف تفسرين هذا الأمر؟
عند استقراء مجمل مضامين مشروع النموذج التنموي الجديد، تلك الورش المجتمعية الهامة، والتي انبثقت من توجيهات ملكية وبمشاركة ومشاورة وحوار بين مختلف المؤسسات الوطنية والقوى المجتمعية الحية من أحزاب ونقابات وهيئات مهنية وحقوقية ومجتمع مدني، نجد أنه قد أفرد حيزاً مهما للمرأة، وفتح لها آفاقاً واسعة للمشاركة في التنمية المجتمعية المستدامة، فالعلاقة الوثيقة بين تحقيق التنمية ورفع معدلات النمو والنهضة المجتمعية، وإدماج المرأة وبين تمتعها بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية كاملة. وهو نفس المبدأ الذي ينص عليه وتحدده مقتضيات الفصل التاسع عشر من الدستور.
فعلاقة التمكين للمرأة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبيئياً المرتبطة بارتفاع معدل النمو معادلة رياضية واقتصادية صحيحة وجدلية وحقيقة مؤكدة. كما أن النموذج التنموي المنشود، يعد المرأة بإمكانية التمكين المتعدد الأبعاد وترقية مكانتها في دائرة القرار والتدبير وعالم المبادرة الحرة لخلق مقاولة نسائية والمساهمة مع الرجل في خلق الثروة وتعزيز فرص العمل. لكن المشكلة القائمة اليوم، تكمن في كيفية ردم تلك الهوة السحيقة بين النظرية والتطبيق على أرض الواقع، وتقليص ذلك التباين الصارخ ما بين التشريعات والبرامج والمبادرات من جهة وما بين التطبيق الأمثل والتفعيل الأنجع والتجسيد على أرض الواقع.
فالتحدي الماثل أمامنا اليوم، هو تحدي التطبيق الفعلي لمضامين مشروع النموذج التنموي المأمول وتحقيق الآثار والنتائج المنتظرة منه. فالتحديات التي تواجه مشروع إدماج مقاربة النوع الاجتماعي في السياسات العمومية، أو بالأحرى الإنصاف والمناصفة الفعلية بين المرأة والرجل في أفق تكريس المساواة الحقة بين الجنسين عند بلورة وتقييم وتقويم السياسات العمومية، فإننا نعتبر بأن هذا الأمر يمر وجوباً عبر سن قانون إطار للمساواة الفعلية على أرض الواقع، وبالتالي فالمدخل الحقيقي والامتحان الديمقراطي الحقيقي الذي يوجهه المغرب رهين بسن قانون إطار للمناصفة الفعلية. ولذلك ندعو إلى ضرورة ملاءمة القوانين والتشريعات الحالية وتجويدها بما يتماشى مع مقتضيات الفصل التاسع عشر من دستور المغرب، ويتوافق مع المواثيق الدولية ذات الصلة.
فتجربة "ائتلاف المناصفة دابا" الذي قدم في هذا السياق كتابين أبيضين يتعلقان بمسح كامل لكافة القوانين والتشريعات التي ينبغي إعادة النظر فيها وملاءمتها، كما ينبغي أن نستحضر بأن "ائتلاف المناصفة دابا" قد اقترح مسودة لهذا القانون، وبلور الكتابين الأبيضين بهذا المضمار. فالحكومة المغربية تمتلك بفضل تجربة وعمل هذا الائتلاف المميز في مضمونه ومساره وأسلوب عمله الخاص ومع مختلف الشركاء، باعتباره تجربة مميزة بقيمة مضافة للمجتمع، ولكونه محصلة لعمل دؤوب لمجموعة من الديناميكيات المجتمعية، وللحركة النسائية المغربية، ملف حيوي واستراتيجي متكامل الأبعاد. فالوقت حان لكي يتم المرور إلى السرعة القصوى لتنزيل مقتضيات مبدأ المناصفة باعتباره مقتضى مكفولاً بالدستور على أرض الواقع.
تعاني المرأة القروية بشكل خاص من الحرمان من فرص التعليم والعمل والوصول إلى الخدمات الصحية وغيرها، كما هناك غياب تام للبرامج داخل الجماعات القروية تستجيب لحاجات النساء بالعالم القروي. كيف ترين هذا الأمر؟
الحديث عن أوضاع المرأة القروية بشكل خاص هو حديث ذو شجون، لأنها لازالت تعاني من العزلة ومن ضعف البنية التحتية وصعوبة الولوج إلى المدارس والمستشفيات وأماكن العمل وإلى كافة الخدمات الأساسية، فضلاً عن استفحال شديد لمشكلة الفقر والهشاشة والغلاء الفاحش في مختلف البضائع والخدمات، وكذلك مشكلة الاقتصاد الغير مهيكل وهشاشة عمل المرأة بشكل عام. كما تعاني الفتيات في عدد من المناطق القروية من أفة التزويج المبكر أو ما يعرف بزواج القاصرات وما ينتج عنه من هدر مدرسي ونقص في مستويات التعليم والوعي لدى الفتيات واستمرار الأمية في صفوف النساء بشكل كبير.
فأحد أهم أسباب استمرار هذه الأوضاع هو ضعف التأطير والمشاركة السياسية وخفوت تمثيلية النساء في المجالس المنتخبة وضعف وصولهن لمراكز القرار بصفة عامة، وهو الأمر الذي يحول دون إسماع صوت المرأة وضعف مشاركتها في صنع القرارات التي تؤثر على حياتها ومستقبلها.
في ظل هذه الأوضاع القاتمة يبقى الأمل في التجسيد الأمثل والتفعيل المأمول لمقتضيات النموذج التنموي البديل وفي بلورة سياسات عمومية ناجعة ودامجة للمرأة في التنمية المستدامة.
أثارت العديد من الفعاليات الحقوقية مسألة الهوة بين الآليات الدستورية والمواثيق الدولية التي تنص على مبدأ المساواة والمناصفة بين الجنسين وبين التطبيق في مجال السياسات العمومية.. هل فعلا مازلنا بعيدين عن تطبيق فعلي للمساواة والمناصفة؟
لسنا بعيدين إذا استحضرنا الإرادة الملكية السامية التي تضع المرأة المغربية دائماً في مكانتها اللائقة، يضاف إلى ذلك العمل الذي تقوم به الحركة النسائية بمجتمعنا وكذلك الديناميكيات المجتمعية والقوى الحية التواقة إلى تطبيق مبدأ المساواة والمناصفة والعدالة الاجتماعية. فهناك بطء وهناء تلكؤ من قبل الفاعلين/ت للتمثيل الحقيقي على أرض الواقع، ومثال على ذلك تراجع المغرب في مؤشر المساواة والمناصفة وحلوله في المرتبة 137 عالمياً، الذي صدر حديثاً عن المنتدى الاقتصادي العالمي، وعلى الرغم من أن هذا التراجع كان بمرتبة واحدة، إلا أننا نعتبر بأن من لا يتقدم يتراجع لا محالة، وبذلك نؤكد بأننا اليوم أمام امتحان ديمقراطي حقيقي، على درب المساواة والمناصفة الفعلية، وبالتالي إنصاف المرأة المغربية.
وبالتأكيد ذلك لن يتأتى إلا عبر التفاعل الإيجابي مع مسودة قانون الإطار الذي تقدم به "ائتلاف المناصفة دبا" ومع كل المقترحات التي تدلي بها الحركة النسائية وكل القوى المجتمعية التي تعمل في هذا الاتجاه. كذلك نعتبر بأن هناك ضرورة حتمية لتنزيل مضامين الكتابين الأبيضين اللذين تقدم بهما الائتلاف، على شكل جزئين، الجزء الأول المرتبط بالمجال السياسي والمؤسساتي والجزء الثاني المرتبط بالمجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي، ونحن في المنظمة الديمقراطية للعمل انخرطنا في هذه الديناميكية المجتمعية وفي هذا الائتلاف، وكنا من السباقين إلى التوقيع على عريضة المناصفة، وهي أول عريضة يتم قبولها من قبل البرلمان المغربي، شكلاً ومضمونا في إطار المقاربة التشاركية التي جاء بها دستور 2011.
في ظل هذه الأوضاع القاتمة يبقى الأمل في التجسيد الأمثل والتفعيل للنموذج التنموي البديل وبلورة سياسات عمومية ناجعة وتطبيق المشروع المجتمعي الكبير الذي يقوده الملك لتعميم الحماية الاجتماعية، وكل ذلك في ارتباط وثيق بالمعطيات والنتائج التي سيتمخض عنها الإحصاء المقبل باعتباره أداة مهيكلة للسياسات العمومية، سواء على المستوى الوطني أو المحلي.