'النوبيات في مصر تتحملن تبعات التمييز المضاعف'
التمييز والعنصرية في التعامل واحدة من السمات التي اشتركت في تناقلها أغلب الشعوب وعادة ما يمارس على الأضعف إلا أن تجربة النوبيات في مصر جديرة بالوقوف عليها لما يقع على كاهلهن من أعباء أساسها النوع الاجتماعي ولونهن وانتمائهن ولغتهن.
أسماء فتحي
القاهرة ـ وضع المرأة النوبية يحمل الكثير من التمييز المتعدد الأبعاد سواء في المعاملات العامة أو في عملها أو حتى في علاقاتها الخاصة، فالأمر لا يقف عند حد الانتقاص من أجرها وقيمتها الفكرية وغيرها من الأمور، ولكنها تقبع تحت وطأة عنصرية تمارس عليها من الداخل "النوبيين أنفسهم" والخارج "المجتمع الغريب" بشكل مركب لكونها امرأة وأيضاً سمراء البشرة.
"تعرضت للتحرش والتمييز والقهر في الأجر لمجرد أني امرأة ونوبية سمراء البشرة" ما أقسى تلك العبارة خاصة إن صدرت عن شخص يستحق التقدير على مختلف المستويات، وكم هي مؤشر صارخ على وضع النوبيات في مصر ممن لا يمتلكون القدرة على البوح بمعاناتهم ويقابلون الكثير من الانتهاكات في صمت عاجز لا حيلة لهم في وجوده أو رفضه.
فعل انتقامي ينتهك الإنسانية بلا جدوى
قالت الناشطة النسوية النوبية، وفاء عشري، أن أزمة النوبيين بدأت مع تهجير السد العالي الذي اضطر الكثيرون لترك موطن إقامتهم والبحث عن فرص أخرى للحياة ومنها السفر للقاهرة أو لغيرها من البلدان العربية.
وأضافت أن الأزمة لم تكن بهذا الحجم قديماً لأن الحياة نفسها كانت مختلفة، فمسألة الاحتياج والجوع تكاد لم تكن موجودة لأن أغلب الأسر كانت معطاءة وتفتح أبوابها للمساعدة والدعم الغير مشروط، سواء كانت متعلقة بمنح الطعام أو حتى معنوية أما الآن فالوضع تغير وتفاقمت حدة الاحتياج مما جعل الكثيرون يعيشون واقع مؤسف.
وأكدت أن التمييز الواقع على النوبيات أساسه النوع الاجتماعي، وهذا أمر مستحدث فقد كان للمرة النوبية تقديرها والزي شبه واحد متمثلاً في "التوب النوبي"، ولكن مع الوقت تأثروا بالوضع العام وظهرت الملابس ذات الطابع الديني من حجاب وغيره، وكذلك تأثر وضعها كامرأة بالسياق العام الذي يمارس ضغوطاً متنوعة على النساء.
وأوضحت أن المرأة النوبية في الماضي كانت تعيش داخل مجتمع منغلق نسبياً ومسؤولة عن حياة الأسرة، والتعليم كان يتم داخل تلك القرى وفي حال التطور والوصول لمراحل متقدمة كان الأمر في أغلبه لا يتعدى حدود ذات المحافظة موطن الإقامة، وظلت كذلك لسنوات في هذا المجتمع الذي يغلق أبوابه على من به وله ثقافة وطابع خاص بل ولغة مختلفة حتى جاءت مرحلة التهجير.
تمييز الدراسة أساسه اللغة
"اللغة أساس التنمر في الصغر"، بهذه العبارة علقت وفاء عشري، على وضع التمييز الواقع على الأطفال في صغرهم، ولكن كان طاقم العمل بالمدارس نفسها يتحدثون بنفس اللغة أما بعد التهجير والتعلم بمدارس أخرى وجدوا أن عليهم التحدث بالعربية التي لم يكن أغلبهم يجيدونها.
وأشارت إلى أن الطلاب وقع على كاهلهم مرارة التنكيل والتنمر طوال فترة الدراسة المبكرة لأن أغلبهم كان يتحدث "عربية ضعيفة"، أي لغة ليست صحيحة وظل التنمر يلاحقهم لسنوات نتيجة هذا الأمر.
وأضافت أن أزمة اللغة ليست سطحية فمسألة التواصل الاجتماعي ذاتها تعتمد عليها وكذلك التعلم بشكل عام لذا فعدد كبير قرر ترك الدراسة، بينما أصر البعض على المواصلة وهؤلاء كانوا الأكثر قدرة على التحمل، موضحةً أنه لا يمكن لوم طفل كره دراسته بسبب تنمر المحيطين على حديثه الذي لا ذنب له فيه، وكل جريمته أنه ولد لأبوين نوبيين كانت لهم لغة خاصة يتحدثون بها في مجتمع منغلق.
التمييز في العمل وأبعاده المتعددة
تعامل النوبية باعتبارها درجة أدنى من القاهريات في أماكن العمل وفرصها في الترقي تكاد تكون منعدمة، وكذلك أجرها أقل كثيراً مقارنة بغيرها لعدد من الأسباب المرتبطة بالانطباع المسبق عنها.
وقالت وفاء عشري أن النوبية عند قدومها للقاهرة يتم التعامل معها على أنها أقل من القاهرية في كل شيء فأجرها عادة ما يكون منخفض عنها ومستوى التعامل مختلف، ويسوق عدد من المدراء أسباب لذلك ومنها أن المرأة النوبية أقل في الرؤية والثقافة والوعي.
وأضافت أن الأسوأ هو التمييز في التقدير والاحترام، والتعامل مع النوبية على أنها ضعيفة لا تمتلك تعليم وثقافة تؤهلها لتنافس غيرها من القاهريات، موضحة أن هناك استغلال واضح لقدرات المرأة النوبية والتعامل معها على أنها كائن ناقص خاصة في القطاع الخاص.
المرأة النوبية ومراكز صنع القرار
تقول وفاء عشري أن "النوبيات هن الأكثر تهميشاً في المناخ السياسي"، مشيرةً إلى أن النساء بشكل عام تعانين من شبه انعدام اتاحة الفرص لهن في الساحة السياسية وفي الكثير من الأحيان لا تستند المفاضلة بين الرجل والمرأة إلى الكفاءة بقدر النوع الاجتماعي لكلاً منهما.
وأضافت "فما بالنا بامرأة أتت من أسوان سمراء البشرة تسعى للتواجد على الساحة السياسية ولها قرار وسلطة تقديرية على الرجال"، مضيفةً ووجهها يتملكه ابتسامة ساخرة "أحلام يقظة بالتأكيد والمناخ العام لا يتقبل ذلك".
وعن تجربة صديقة وفاء عشري التي سعت للتواجد السياسي قالت "كانت لي صديقة شاركت في التعديلات الدستورية وكان لها دور بارز في مرحلة العدالة الانتقالية ومع ذلك تعرضت لعنصرية شديدة من داخل المجتمع النوبي نفسه فقط لأنها محرك ودافع لمن حولها وهذا سلوك نسائي غير مقبول فكونها امرأة لا يحق لها القيادة وتم تهديدها وتهديد عائلتها مما اضطرها للانزواء والبعد عن العمل العام".
وأضافت "لي زميلة أخرى قررت الترشح على أحد المجالس الإدارية للنوبيين وأيضاً تم التشهير بها وتهديدها وتهديد عائلتها وهو الأمر الذي جعلها تتراجع عن ذلك ورفضت البوح بما تعرضت له من تهديدات وتنكيل إلا للمقربين منها وكنت بينهم وضحت بحلمها في القيادة والتصعيد السياسي".
تجارب شخصية مع عنصرية التعامل والتمييز النوعي
وعن التمييز الذي عانت منه وفاء عشري خلال حياتها قالت "للرجل عندنا فرص أكبر في التعليم وقد تأثرت بذلك فرغم تفوقي إلا أني لم أحصل على فرصة أكبر بالتعلم الذي أرغبه لأن سفر البنت أمر لا تقبله أغلب العائلات ولم أملك حتى مجرد الحق في اختيار الشريك".
وأضافت "حاولت الحصول على مساحة مميزة في أسوان وعملت بطاقة كبيرة حتى أكون على درجة من الكفاءة تساعدني على تجاوز الانتقاص مني كامرأة وأصبحت المحاسبة الوحيدة في شركة بها نحو 26 فرع على مستوى مصر ولكني لم أسلم من التمييز فتخطاني الرجال في الترقية والأجر، ولم أحظى بفرص للترقي لأن المدراء لا يرون أن المرأة بإمكانها أن تقرر وتدير وهذا ما اضطرني لتقديم الاستقالة".
وأكدت أن التمييز لم يتوقف قط لكونها نوبية فمعاناتها كانت مضاعفة "إحساسي بالتمييز مضاعف وكنت أرى من هم أقل مني في الكفاءة والخبرة يحصلون على شروط عمل أفضل ولا أجد مبرر لذلك أبداً إلا لأني امرأة ونوبية من أسوان".
وأشارت إلى أن هناك ثقافة سائدة جعلت العنف أساس العلاقة مع المرأة النوبية باعتبارها ذات البشرة السمراء الأقدر على ممارسة الجنس وهو ما يجعل مساحة التبجح في التعامل معها قائمة، ولذلك تتعرض أكثر للعنف الجنسي والتحرش دون غيرها "واجهت العنف بنوعيه من النوبيين والقاهريين".
أسباب التمييز ودور الحكومة في التعامل معه
وقالت وفاء عشري للتمييز الواقع على النساء النوبيات أسباب عديدة وأن للسياق الدرامي والسينمائي دور في الحط من قدر تلك الفئة والسخرية منها دائماً سواء على مستوى المظهر "لون البشرة"، أو المضمون بإخراجهم في الصورة الأقل سواء على مستوى الثقافة أو الوعي، وهو ما تسبب في ظهور حراك نوبي رافض لهذا الأمر أثر بدوره على البلاد التي سعت لاحتواء الأمر وتحجيمه كلما أمكن ذلك.
وأكدت أن هناك الكثير من أوجه القصور التي تحتاج لإعادة النظر، منها إنشاء مفوضية التمييز المتعثر منذ سنوات طويلة والذي قد يساهم بدوره من احتواء تلك الأزمات، لافتةً أن الحكومة تمارس نوع آخر من العنف تجاه النوبيين بعدم إقرارها قانون خاص بإعادة توطين النوبيين في قراهم القديمة، وكذلك عدم تحسين أوضاعهم لأنهم يقيمون بقرى ينقصها البنية الأساسية والكثير من أدوات الحياة الصحية فضلاً عن حرمانهم من الاحتفال بيومهم الوطني منذ عدة أعوام لأسباب أمنية سواء في الجمعيات الخاصة بهم أو في أماكن الاحتفال العامة.
وأضافت مثالاً على ذلك بالتأثير المباشر للسيول التي حدثت في أسوان العام الماضي على النوبيين والتي ألحقت ضرراً كبيراً بقراهم، مؤكدةً أنه حتى اليوم لم يحصل أغلبهم على تعويضات عن خسائرهم.