امرأة تمتهن النجارة وتكسر التنميط المجتمعي

العديد من المجتمعات تضع النساء في إطار التنميط القائم على النوع الاجتماعي، لكن المرأة على أرض الواقع أثبتت من خلال إرادتها أن هذا التنميط لا يمثلها، فهي امتهنت الكثير من الحرف ونجحت في إتقانها.

أسماء فتحي

القاهرة ـ المرأة تتمتع بمهارات يدوية تساعدها على امتهان الكثير من الحرف والمهن، منها النجارة التي أثبتت فيها قدرتها الجسدية وتركيزها العالي واهتمامها بالتفاصيل.

فاطمة الشريف البالغة من العمر 30 عاماً تعمل في النجارة التي تعتبر واحدة من المهن المعروف عنها أنها حكر على الرجال، لكنها استطاعت إثبات أن هذا الكلام لا يمس للواقع بأي صلة، فهي اليوم بمقدورها تنفيذ مجموعة من التصميمات لمختلف قطع الأثاث المنزلي.

وعن هذه المهنة وضلوع المرأة فيها، أكدت فاطمة الشريف في حوار لوكالتنا أن المرأة الآن فرضت وجودها بشكل فعلي، وهو مؤشر على ارتفاع مستوى وعي النساء وتطور ثقافتهن.

 

البعض يرى أن مهنة النجارة تحتاج لبنية جسدية قوية والمرأة لا تمتلكها، فما رأيك بهذا؟

الهدف الأساسي من هذا الكلام هو تقييد دور النساء والخوف من مزاحمتهن للرجال في الكثير من المهن وليس في النجارة فقط، فالمرأة تستخدم في المطبخ الكثير من الأدوات والآلات الحادة، فكيف لا يتم الشك في قدرتها في هذا المكان.

برأيّ أن المشكلة تكمن في عقول الأشخاص الذين يشكون في قدرة المرأة، فهم نفسهم الذين ينمطون دورها في المجتمع ويجزمون أنها لا تقوى على هذا النوع من العمل أو استخدام الأدوات الحادة أو حتى التعامل مع كبار المهنة، وهذا اعتقاد خاطئ ولا يمت للحقيقة بصلة.

فأكبر صعوبة تواجه النساء العاملات في مهنة النجارة أو أي مهنة أخرى تكمن في التعامل مع الرجال وأقناعهم بصحة ما تقمن به، وأنا أتحدث عن هذه المشكلة بالتحديد لأنني تعرضت لها عندما ذهبت إلى عدد من النجارين بغية السؤال عن أنواع معينة من الخشب وذلك لأن بعض الأنواع يتم استيرادها من خارج البلاد، وإذ بأحدهم يخبرني بأنه كان يجب عليّ إحضار رجل حتى يستطيع أن يتحدث إليه، لأنهم لا يتقبلوا فكرة أن المرأة يمكنها امتهان النجارة، كما عبر بعضهم عن عدم الرغبة في التعامل معي إطلاقاً كوني امرأة.

 

كيف كانت بدايات عملك في مهنة النجارة؟

بدأت في امتهان النجارة عندما كنت حامل بطفلتي ونظراً لوضعي الصحي كان عليّ أن أعمل ولكن داخل المنزل، فقررت شراء مجموعة أدوات صغيرة والقليل من الخشب لأصنع منها بعض التحف التي أزين بها منزلي وأسوق من خلالها عن منتجاتي الخشبية.

ولاقت منتجاتي إعجاب الكثيرين، وبعدها حصلت على تعاقدي الأول الذي كان عبارة عن تصميم بعض الأثاث، ولأنني لم أكن أملك الخبرة الكافية لفعل ذلك لوحدي توجهت إلى ورشة النجارة الخاصة بوالد زوجي، وبدأت هناك أسأل العاملين عن كافة التفاصيل حتى أكون ملمة بجميع نواحي الحرفة، وبقيت على هذا الحال لمدة ستة أشهر متواصلة كنت فيها أجلس على الكرسي وأحمل طفلتي بين ذراعي وأراقب النجارين هناك كيف يعملون، ثم رأيت في نفسي القدرة الكافية على امتهان النجارة كأي عامل في هذه الورشة.

 

فكرة عملك مع والد زوجك وفي حي شعبي تبدو غير مألوفة بعض الشيء، ما هو رأيك في ذلك؟

كانت واحدة من أكبر الصعوبات التي واجهتني هي أقناع والد زوجي الذي يعمل في منطقة شعبية يندر فيها عمل النساء، بأن عملي معه في نفس الورشة أمراً ليس معيباً، وفي ذلك الوقت دار بيننا جدال كبير لأنه رفض توجيهي ومساعدتي حتى أقوم بهذا العمل، كما أن رفضه لهذه الفكرة جاء بسبب التعليقات التي كان يسمعها من المارة والأشخاص الذين يحضرون إلى الورشة.

لكن من خلال إصراري على العمل في هذه المهنة التي اخترتها، تمكنت من إقناعه بتقبل الأمر وتقديم الدعمي ليّ حتى أصبح متمكنة من كل التفاصيل بما فيها أنواع الأخشاب والعمال وغيرها من الأمور التي احتاجها.

 

عملك في حي باب الشعرية كان خطوة جريئة، فهل أخبرتنا عما كنتي تتعرضين له أثناء عملك هناك؟

عملت في حي باب الشعرية لمدة خمسة أعوام، وهنا كانت الصعوبة الأكبر حيث أن أغلب العاملين والمتواجدين في تلك المنطقة هم من الرجال، وكنت أسمع همساتهم وأشعر بنظراتهم التي تبحث عن سبب تواجدي في هذا المكان.

في كل يوم قضيته هناك كنت أتعرض للمضايقات، فبعضم كان يحاول النيل من عزيمتي من خلال تلفظهم ببعض العبارات التي يقصدون توجيهها إليّ بحجة أنهم يمازحون والد زوجي، أعتقد أنها كانت من أصعب اللحظات التي عشتها فقد جعلتني أفكر مراراً في ترك العمل واكتفائي بالمتابعة فقط، لكنني كنت أعزف عن هذا القرار بمجرد تواجدي في الورشة، وعلى خلفية ذلك قررت نقل عملي إلى مكان آخر لكنه في شارع أخر من حي باب الشعرية أيضاً، بات الأمر أسهل لأن الشارع الذي انتقلت إليه كانت فيه نسبة لا بأس بها من النساء اللواتي تعملن هناك.

وعلى الرغم من تعرضي في الفترة الأولى للكثير من الخسائر وذلك لأني كنت أخشى أن أدخل في جدال حاد مع العاملين في النجارة، ولكن بعد أن تعلمت أصول المهنة وتمكنت منها استطعت أن أقف وأواجه وأطلب حقوقي واتناقش مع العاملين، حتى أتمكن من الحصول على ما أريد وليس ما هم يريدونه دون أي تردد أو قلق من ردة فعلهم.

فعادة العاملون أو ما يسمون بصغار المهنة عندما يجدون أن من يتعامل معهم على درجة عالية من المعرفة والثقة بنفسه، فإن ذلك يشكل فارقاً كبيراً في أسلوب تعاملهم معه.

 

كونك والدة ولديك عائلة، هل شكل ذلك عائقاً أمام امتهانك للنجارة؟

الأمومة لا تشكل أي عائق أمام المرأة التي ترغب في إثبات ذاتها، ولكن المشكلة تكمن فيمن يرونها كذلك، ففي بداية عملي كنت أحضر ابنتي معي وكنت وقتها أتعرض للكثير من اللوم كونها تبقى لفترة طويلة معي في الورشة التي تكثر فيها الأدوات الحادة والمسامير والأخشاب، لذلك قررت إيداعها لدى والدتي لكني أيضاً لم أضع حداً للوم والانتقادات كوني أنشغل في عملي وأترك ابنتي.

ومع الوقت أدركت أن الانتقادات ونظرة المجتمع لن تهدأ وسأبقى ملامة في جميع الأحوال، لذلك قررت أن أفعل ما أراه مناسب ليّ ولابنتي التي تبلغ الآن من العمر ثمانية أعوام، لذلك أقوم باصطحابها معي إلى العمل كل يوم، حيث شكل لها عملي في النجارة فارق كبير، فتطلعاتها في الحياة اختلفت كثيراً نتيجة تأثرها بإصراري ومثابرتي، وباتت تختبر مدى تمسكها بحقوقها على غرار ما أفعله، كما أنني باصطحابي لها كسرت حواجز كثيرة كانت ستبنى بيني وبينها.

 

هل هناك مواقف شعرتي بها أنك ضعيفة بعض الشيء، هل يمكنك أن تتطرقي لذلك؟

ذات مرة ونظراً لتعرضي لبعض الظروف التي أجبرتني أن أعطي عملي لنجار أخر حتى يقوم بإنجازه بدلاً عني، لكنه أخلف الاتفاق الذي بيننا ولم يقم بالعمل الذي طلبته، حينها شعرت أنني اتعرض لعملية نصب واحتيال وبالتالي لن أحصل على شيء بالمقابل.

لكنني وقتها لم أغادر ورشته إلا بعد أن حصلت على الخشب اللازم حتى أتمكن من أنجاز العمل الذي طلب مني وقمت بذلك على أتم وجه بعد أن حصلت على وقت إضافي من العميل، يمكنني القول إنه كان من أفضل الأعمال التي قمت بها حتى اليوم.

كما أنني كنت في السابق أشعر بالخوف الشديد والحذر عندما أتعامل مع بعض العملاء الذين أرى أن طريقة تعاملهم معي غير مريحة، فهم ينظرون إلى المرأة على أنها فريسة ومن السهل النيل منها، لكنني استطعت التغلب على مخاوفي مع مرور الوقت، أما النساء اللواتي أتعامل معهن فهن يبتهجن عندما يعلمن أنني أم وأعمل في مهنة قد يراها البعض صعبة على المرأة.

 

 

هناك تنميط لدور المرأة في المجتمع، فإلى أي مدى تستطيع النساء أن تعملن في المهن التي يهيمن عليها الرجل؟

بحكم عملي في مهنة النجارة أرى أن الكثير من الرجال يحاولون نشر مثل هذه الفكرة، حتى يتمكنوا بشكل أكبر من ممارسة سلطتهم وفرض نفوذهم على النساء من خلال تحجيم أدوارهن في المجتمع وحبسهن في إطار أعمال تبدو قليلة القيمة مقارنة بالأعمال التي يمتهنونها.

لكن المرأة اليوم تستطيع ممارسة جميع المهن وبسهولة سواء السباكة أو الميكانيك أو حتى عملها في المقاهي وداخل الأسواق، وقد قابلت الكثير من النساء اللواتي جعلن المجتمع يأخذ كلامهن على محمل الجد وهو الأمر الذي رأيته في مهنة النجارة، واعتبر نفسي أيضاً خير مثال على ذلك فأنا اليوم لم يعد ينقصني أي شيء كما هو حال أي نجار أخر، فقد تفوقت على الكثير منهم بالبحث والمعرفة وحتى في تطوير أدواتي وأفكاري بما يتناسب مع مهنتي.